JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
الصفحة الرئيسية

سحلب حليب " قصص في القلبِ وطنٌ "


بقلم أ مصطفى طه باشا

خرجتُ من منزلي, واتجهتُ نحو الجادة الرئيسية, وهناك شاهدتُ شابًا سوريًا يبيع السحلب الساخن, أمام مدرسة إعدادية تركية, والطلاب متجمعون حول عربته, كي يشتروا السحلب والفول الساخنين, وفي هذه اللحظة مرّت ذكريات بلدي وكأنها مشاهد مصورة, فعادت بي الذاكرة إلى سنوات مضت, فتذكرت نفس المشهد أمام مدرستي؛ حيث كان العم أبو علي يبيع السحلب الساخن للطلاب هناك.



كان العم أبو علي يخرجُ من منزله صباحًا, بعد أن يقوم بتجهيز السحلب الساخن, وقبل أن يضع الطنجرة على العربة, يقوم بترتيب عربته الخشبية القديمة ذات الأربع دواليب ويمسح المياه المتجمعة على ظهر العربة, ويضع طنجرة السحلب الكبيرة في مكانها وسط العربة، يتفقّد الكاسات البلاستيكية فيجدها قليلة، فيعود نحو المنزل ويقوم بشد حبل قفل باب الدار - فقد كانت من ضمن عادات بلدتنا وضع حبل لقفل باب الدار ليشده كل من يأتي وهذا دليل على البساطة والأمان وعدم الخوف فيما بينهم - ليدخل لبيته ويحضر كيس كاسات فارغة، بعدها ينطلق نحو ساحة السوق ويبدأ بمناداة " سحلب حليب سحلب ساخن "
وكالعادة يمر طلاب المدرسة ويشترون منه كاسات السحلب الساخنة, كي تشعرهم بالدفء في أجواء الشتاء الباردة، هكذا كانت حياة العم أبو علي مفعمة بالبساطة والطيب، تذهب أيام وتأتي أخرى وتتبدل أحوال البلدة وتتغير النفوس والعادات, وتختفي البساطة والعفوية, لتنقلب الحياة رأس على عقب, ولكن العم أبو علي لم يتغير أبدًا, وبقي كما هو؛ الإنسان البسيط الطيب الذي حافظ على طيبته وبقي ينادي " سحلب حليب " وظل يخرج من بيته باكرًا, وظل حبل قفل باب الدار كما هو، وفي يوم شتوي بارد، خرج ليبيع السحلب كعادته ولكنّه لم يعود لبيته مرة أخرى, فقد توفي العم أبو علي في ساحة البلدة, والتي يُعتبر رمزًا من رموزها, تعرضت البلدة لانفجار كبير, مات العشرات من الأشخاص ومئات الجرحى, ومن بينهم أبو علي الذي اختلطت دماءه مع السحلب, في مشهد أليم عظيم, لم ينساه أهل البلدة, وظلّوا يتحدثون عنه لسنواتٍ عدّة, رغم وجود عشرات القتلى غيره ولكنهم يذكرون أبو علي وكيف عانق جسده عربته القديمة, وكيف عانقت دماءه السحلب الساخن.
 نعم تذكرت أبو علي وتذكرت بلدي رغم أنه لم يفارق مُخيلتي أبدًا, وكم من أبو علي مات واندثر في غياهب الحرب, الحرب التي مزّقت عاداتنا, وفرّقت شعبنا, وقتلت مجتمعنا الطيّب البسيط.

الاسمبريد إلكترونيرسالة